نشأة المعهد
لقد علمنا أن كثيرا من متتبعينا، لم يخرجوا برؤية واضحة، فيما يخص "المعهد العمري" للعلوم؛ وعرفنا أن بعضهم ما يزال يستقي المعلومات من هنا أو هناك، لتكميل التصور لديه. ونحن هنا سنبين كل ذلك على قدر ما يحتمل هذا الحيّز. وسنعرض ذلك -على عادتنا- في مجموعة نقط، ليتمكن الناظر من تبيّن ما نتكلم فيه.

 

1. كيف نفتح معهدا علميا، والمعاهد لا يخلو منها بلد من البلدان؟… والحكمة تقتضي أن لا نفعل ذلك، إلا إن كان لدينا جديد، ولو من وجه واحد!… وهذه هي الحقيقة.. فنحن عندما رأينا أن الجامعات والمعاهد، قد نزل فيها المستوى العلمي إلى مستوى لا يليق، ووجدنا أن السياسيين ورجال المال، قد أصبحوا من “صانعي” السياسات التعليمية، في بلداننا المتخلفة، بما أوصلنا إلى هذا الحضيض؛ فإننا قصدنا إلى تجديد عام لمختلف العلوم، نعمل فيه مع المتخصصين الذين يشاركوننا الهم والرؤية، على إعادة العلوم إلى نصابها، من جهة؛ وعلى تخليصها من الجهل المختلط بها، من جهة أخرى. وذلك لأن العلم لو كان خالصا، لا يخالطه جهل، ما كان ليصير سببا من أسباب التخلف لدينا. ولا نظن أحدا يكابر في هذا!…
 
2. إن العلوم الدينية نفسها، والتي كان يُفترض أن تكون مستنقذة للعقل البشري من سفالته (من السفل)، قد انحرفت منذ القرون الأولى، وعندما صُيّرت عقلية بحتا؛ مع أن العقل مجاله محدود جدا في الدين، ولا يعدو شطرا من علم استنباط الأحكام (الفقه). وهذا يعني أن العلم في أصله رباني، يؤتيه الله لمن يشاء من عباده، وليس متاحا لكل من طلبه. وعندما يقول الله تعالى -مثلا- في القرآن: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت: 49]، فينبغي أن يؤخذ الكلام بحرفيته؛ لا أن يُنزل من مرتبة الصدور إلى مرتبة الفكر، التي يقول الله عنها في موضع آخر: {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا . سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا . إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ . فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ نَظَرَ . ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ . ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ . فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ . إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ . سَأُصْلِيهِ سَقَرَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ . لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ . لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ . عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 16 – 30]. ولهذا السبب الذي نقول، أصبح الأميون من أمتنا أكثر إيمانا -بلا ريب- من ‶علمائنا‶ الذين خرجوا عن الصراط المستقيم علميا، قبل أن يخرجوا عنه عمليا.
 
3. إن الفقه الذي يظنه الناس عملا عقليا، ينطلق من النصوص؛ ليس كذلك إلا في شطر منه؛ ويبقى الشطر الأول والأصلي كشفيا، يكون نتيجة الإيمان وعمل الصالحات. يقول الله تعالى في هذا المعنى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9]؛ والهداية علم غير عقلي. ثم يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [هود: 23، 24]؛ فجعل الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات مبصرين وسامعين بالنتيجة، في مقابل من بقي على عماه وصممه. والإبصار والسمع تعلُّقان علميان بالمسموعات وبالمبصَرات. وهذا، من أخص ما يكون من العلم؛ وليس معنى مجازيا كما تفهم العامة. ثم يقول تعالى: {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطلاق: 11]؛ فالخروج من ظلمات الجهل، إلى نور العلم، لا يكون إلا باتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بفرعيْه: الإيمان والعمل الصالح. ثم إن هذا الإخراج من الظلمات، هو من الرسول المتبوع صلى الله عليه وآله وسلم، وليس تعمُّلا من العقول، كما يتوهم الجاهلون. والعلم الذي سماه الله نورا، يختلف في حقيقته عن العلم الذي يتعلق به "المتعالمون" من منحرفي التديّن منّا. وذلك لأن النور من حقيقته الكشف، فيكون بهذا العلم، خاصية كاشفة -بإذن الله- للمعلومات؛ لا جمعا تراكميا لها، يكون أحيانا تلفيقا وإلحاقا على غير هدى، لا بد فيه من الخلط والالتباس. وحتى يُدرك الناس معنى العلم، فعليهم أن يعلموا أنه في الأصل صفة إلهية؛ والله يتنزه علمه عما وصفنا من علم المتعالمين، الذي لا يعدو مرتبة الظنيّة في الحقيقة.
 
4. ومن الخلط الذي وقع فيه علماء الدين لدينا، جعلهم فقه أئمة الفقه أعلى ما يكون من العلم؛ وهذا غلط بيّن. وذلك لأن علم أئمة الفقه، لم يتجاوز ما يتعلق بمرتبة الإسلام وحدها (المرتبة الأولى من الدين)، من جهة؛ ومن جهة أخرى فإنه لا يتنزه عن نيل العقل له من طريق الاستدلال (بداءة أو تعلُّما). وهذا الصنف من العلم، ليس هو العلم في أعلى مراتبه وإن تعلق الأمر فيه بالأحكام؛ بل هو من الرخصة التي رخص بها الله لمن ليس من أهل النور (الكشف) من علماء الأحكام فحسب. يقول الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]؛ والتفقُّه هنا تعلّم بالطريقة المعهودة لدى الفقهاء في الاصطلاح، وليس تلقيا عن الله، بالمعنى الأعلى. ثم يقول الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]؛ وهذا الاستنباط، عمل عقلي أيضا، ينزل عن مرتبة الكشف الإلهي المذكور آنفا. وإن نحن عدنا إلى الأئمة الأربعة المعلومين لدى أهل السنة، فإننا سنجدهم من أعلى مرتبة للمستنبطين، بسبب علو مرتبتهم العقلية وصفاء أذهانهم من جهة؛ وبسبب كونهم على كشف خاص بهم (يختلف عن كشف العارفين وأدنى منه)، يهتدون به إلى ما لا تتمكن عقولهم من بلوغه من الأحكام، من جهة أخرى. وأصحاب هذه الخصيصة، من كل زمان، هم وحدهم من يُنسبون إلى الاجتهاد، لا كما يفهم الناس بحسب مُدرَكهم. وأما أمثال جعفر الصادق عليه السلام من أئمة الدين، لا من أئمة الفقه فحسب، فهم من أهل النور، لا من أهل الرخصة الاستنباطية. فإن علمنا هذا، فلنعلم الآن، أن الشريعة -بحسب علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها- لا ساحل لها؛ ولا ينبغي أن تُحصر في فهم إمام أو فقيه، مهما بلغ فيها من العلم؛ لأن ذلك سيُقيّدها من جهة، وسيجعلها متوقفة عن العطاء من جهة أخرى، في بعض الأزمنة كزماننا، الذي أصبح فيه المتعالمون عالة على الأولين.
 
5. كل ما سبق لنا ذكره، فهو يستند إلى الدين الذي هو الطريق الأصلي إلى الحق والحقيقة؛ وأما النازلون عن هذه المرتبة، والذين جعلوا العلم عقليا (فلاسفة وغيرهم)، فإننا -المعهد العمري- سنعمل على إعانتهم على إعادة ما يسمونه علما أو معرفة (وهو غير ذلك) إلى أصوله، على نور؛ حتى يتخلصوا من الظلمة (جنس الظلمات الوارد ذكرها في القرآن) التي تخالطه، ولا بد. ونقول "ولا بد"، لأن العمل العقلي لا بد أن تخالطه الظلمة، التي يستصحبها من أصله (أصل العقل). ومن هذا الباب، نحن نعمل مع أهل الفلسفة على تفكيكها وإعادة بنائها. ويتبع أهل الفلسفة من هذا الوجه، أهل الكلام؛ لكونهم من المتفلسفين داخل الدين، كما نقول دائما. وعلمهم -هم أيضا- لا يخلو من ظلمة مصاحبة، سنعمل مع أهله، على تمييز النور من الظلمة فيه. كل هذا لا ليصيروا علماء مساوين لأهل النور الرباني، وهذا أمر غير متاح إلا من طريقه؛ ولكن لنخلصهم بإذن الله من الظلمات التي قد تخرج بهم جزئيا أو كليا عن الصراط المستقيم، كما هو عند الله؛ لا كما يتوهمه المتوهمون.
 
6. وقد استحدثنا بإذن الله علما سميناه “أصول العلم”، نشترط دراسته على كل الطلبة لدينا، على اختلاف تخصصاتهم؛ لأننا نريد أن نعيد أهل العلوم الدينية وأصحاب العلوم العقلية جميعا، إلى أصل واحد؛ يجهلون وجوده، وبالتالي يجهلون إمكان التواصل علميا فيما بينهم. وإن هذا العلم جعلناه دروسا معدودة، تتناول الحقائق الأولى، بداية من الوجود المطلق والعدم بشطريْه. وإن كل “عالم” لا يحسن هذا العلم، فإنه سيظل قاصرا في تخصصه، مهما بلغ في المرتبة لدى الناس عموما، أو لدى المجتمعات العلمية خصوصا.
 
7. إن من يُدرك ما أشرنا إليه من أصول في كل كلامنا، سيعلم مُنطلقنا في الدعوة إلى مجاوزة المؤسسات الرسمية المختلفة في بلداننا العربية الإسلامية على الخصوص. وذلك لأن هذه المؤسسات، لم تعد تخرّج علماء بالمعنى الأصلي للكلمة، بقدر ما تخرّج محترفي علم؛ العلم عندهم، بضاعة ينبغي أن تُستثمر وأن يُترزّق منها، من دون اعتبار لحقيقة معلومهم من علمهم. ونعني أنه بالنظر إلى الفقهاء مثلا، لا أحد يسأل عن مدى إسعاف الفقه للناس في حياتهم اليومية وفي أعمارهم كلها. فصرنا نتيجةً لهذا الوضع المنحرف، منشئين لكنيسة إسلامية وإكليروس إسلامي فحسب؛ ليس همهما أخذ المسلمين على المحجة البيضاء؛ ولكن مفاوضة الحكام الداخليين، والقوى العالمية الخارجية، على ما ينفعهما في دنياهما فقط؛ وهو ما زاد من انحراف الدين. ونعني أن الدين بعد أن انحرف عند جهل بعض علمائه لمصدره، فقد صار شأنا سياسيا داخليا وخارجيا، لا صلة له بأصله، إلا ما يُحافَظ عليه من وشيجة متزايدة الانحلال بالوحي، أو من طقوس جوفاء يُدفع الناس إلى الإتيان بها، بطريقة آلية منقطعة عن الأصل.
ونحن بإنشائنا، لهذا المعهد العلمي، إنما ندعو أولي النهى، الذين أدركوا أن علمهم ليس علما صحيحا كله؛ وأنه لا يبلِّغهم الغاية منه في الدنيا والآخرة؛ هذا إن لم يعد وبالا عليهم في الدنيا والآخرة، كما هو معلوم. وهذا يعني، أننا لا نخاطب أشباه العلماء، الذين هم فرحون بما بلغوا من المكانة الاجتماعية، أو المكانة الوظيفية؛ أو بما يجعلهم مؤهلين لخدمة الأنظمة الحاكمة في بلدانهم. فهؤلاء أقل من أن يُخاطَبوا.
نعم، نحن نعلم أن ما نقوم به يمكن أن يُعد "ثورة علمية"، تقلب الأوضاع العقلية لدى أمتنا رأسا على عقب؛ أو على الأصح تعيدها إلى الأصل، ما دامت مقلوبة الآن. ونحن نعي أن العقل العربي جبان، رُبِّي على ذلك؛ حتى يكون منصاعا لطغاة الداخل وطغاة الخارج. لذلك فلا ننتظر أن تلتحق بنا جموع المنتسبين إلى العلم؛ ولكن ننتظر طليعة مؤهلة لما ذكرنا، قد ضاقت ذرعا بالانحطاط الذي وصلنا إليه؛ لتكون مبلغة عنا لمن وراءها من العلماء والناس عموما.


بارك الله في الجميع، ووفق علماءنا لما ينفعهم عند ربهم في الدنيا والآخرة...

لمعرفة المزيد من المعلومات عن معهد "العمرية"
من نحن